القبيلة والقبلية: بين الجذور الاجتماعية ومعوّقات بناء الدولة.

تُعدّ القبيلة من أقدم التنظيمات الاجتماعية التي عرفها الإنسان، فقد قامت بدورٍ محوريٍّ في حفظ التماسك الاجتماعي، وضمان الأمن، وتحقيق التكافل بين أفرادها. غير أنّ التحوّل من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث، القائم على الدولة والمؤسسات والقانون، أفرز مفارقة دقيقة بين مفهومين متقاربين في اللفظ، مختلفين في الجوهر: القبيلة والقبلية.
هذه المفارقة هي التي تُحدّد اليوم طبيعة العلاقة بين البُنى التقليدية والدولة الحديثة في العالم العربي عمومًا، وفي المجتمعات الموريتانية والساحلية خصوصًا.
أولًا: القبيلة كمكوّن اجتماعي إيجابي.
القبيلة، في معناها الأنثروبولوجي، هي بنية اجتماعية متماسكة تقوم على رابطة النسب أو المصاهرة أو الحماية المشتركة. وقد أدّت عبر التاريخ أدوارًا محورية في تشكيل الشخصية الجماعية للأمم، من خلال:
1- تعزيز قيم التضامن والتكافل الاجتماعي، حيث ظلّ الانتماء القبلي مصدرًا للأمان المعيشي والوجداني.
2- حفظ الأعراف والنظم التقليدية التي ساهمت في تنظيم الحياة العامة قبل نشوء الدولة المركزية.
3- إنتاج القيادات المحلية التي مثّلت نواةً للسلطة السياسية فيما بعد.
4- القيام بوظائف الوساطة الاجتماعية بين الأفراد والسلطة، مما خفّف من حدّة النزاعات في المجتمعات الريفية والبدوية.
إذن، القبيلة ككيان اجتماعي ليست بالضرورة نقيضًا للدولة، بل يمكن أن تكون رافدًا من روافد الاستقرار حين تُوجَّه قيمها نحو خدمة الصالح العام.
ثانيًا: القبلية كممارسة سلبية مدمّرة.
أما القبلية، فهي الوجه الآخر — غير البنّاء — للقبيلة.
إذ تتحوّل الرابطة الاجتماعية إلى أداة للتمييز والإقصاء والمحسوبية، وتصبح معيار الولاء الشخصي أو العائلي فوق الولاء الوطني.
وتتجلّى آثار القبلية السلبية في:
1- إضعاف مفهوم المواطنة عبر تفضيل الانتماء الضيّق على الانتماء للدولة.
2- عرقلة بناء المؤسسات الحديثة حين تُوزّع المناصب والفرص على أساس قبلي لا على أساس الكفاءة.
3.- إثارة النزاعات الداخلية التي تُهدّد السلم الاجتماعي وتضعف الثقة بين مكوّنات المجتمع.
4- تحويل القبيلة إلى أداة للنفوذ السياسي، مما يكرّس الزبانية ويقوّض مبدأ العدالة والمساواة.
ومن هنا، تصبح القبلية عقبة أمام الدولة المدنية القائمة على القانون والمؤسسات، لأنها تُعيد إنتاج الولاءات ما قبل الدولة.
ثالثًا: بين الانتماء والولاء — نحو توازن مطلوب.
ليست المشكلة في وجود القبيلة، بل في طريقة تموضعها داخل مشروع الدولة الحديثية.
فالمجتمعات التي نجحت في الدمج بين الأصالة والتحديث هي تلك التي:
* احترمت البنية القبلية بوصفها .
* مكوّنًا ثقافيًا وتاريخيًا؛
* لكنها فصلت بينها وبين مجال القرار العام الذي يجب أن يُبنى على الكفاءة والمواطنة لا على العصبية.
وفي التجربة الموريتانية مثلًا، ما تزال القبيلة تشكّل إطارًا اجتماعيًا ضروريًا لحفظ التوازنات المحلية، لكنها في الوقت ذاته قد تُستغل سياسيًا فتُصبح عامل تجزئة بدل أن تكون عامل تماسك.
خاتمة:
إنّ القبيلة بحدّ ذاتها ليست عائقًا أمام بناء الدولة، بل يمكن أن تكون
شريكًا في التنمية والاستقرار إذا أُعيد تعريف علاقتها بالمجال العام على أساس الانتماء الوطني لا الولاء الضيّق.
أما القبلية فهي نزعة تُهدّد روح المواطنة وتقوّض أسس العدالة والمساواة، وتُعيد المجتمع إلى منطق “من معنا ومن ضدنا”.
إنّ بناء الدولة الحديثة يتطلّب تحويل الطاقة الاجتماعية للقبيلة إلى قوة مؤسسية منظّمة تخدم الصالح العام، لا إلى شبكة مغلقة تُعيد إنتاج النفوذ.
وبذلك يتحقق التوازن بين الهوية والانتماء من جهة، والحداثة والدولة من جهة أخرى.
بقلم الاداري الدكتور الحسين محمد اشويخ.



